“الدولة الإسلامية” ليست مجرد قتل الناس.. إنها تدمير ثقافة

9888مقال للكاتب والمؤلف آكي بيترز المحلل السابق في شؤون مكافحة الارهاب لدى وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية نشره في صحيفة واشنطن بوست:

“قبل أن يشهد العالم القوة الكاملة لوحشية ميليشيات “الدولة الاسلامية” في ذلك الفيلم المصور الذي عرض الاسبوع الماضي ويظهر عملية ذبح الصحفي الاميركي جيمس فولي، كشف فيلم مصور آخر عن حجم الدمار الذي تبدو الجماعة المتشددة مصممة على احداثه.

فعبر تصوير لا يتجاوز الدقيقة من الوقت، سلطت الكاميرات عدساتها على مبنى اسمر اللون يضم منارة رشيقة ترتفع بشموخ، وبعد أقل من 10 ثوان، حدث وميض وصوت انفجار قوي، الأمر الذي انتهى باختفاء المنارة والمبنى الذي ضاع كل شيء عنه في خضم الدخان المتصاعد.

لقد كان ذلك هو جميع ما تبقى مما كان يعرف سابقا بمرقد النبي يونس، وانتهى المرقد الى مجرد ركام فقط في ثوان قليلة بتوقيت داعش.

لقد كانت ميليشيات “الدولة الاسلامية” وما تزال تسعى لتعزيز قبضتها المتطرفة على المناطق التي اخضعتها حديثا لسيطرتها، وإلى جانب عدد لا يحصى من الاساءات، التي ارتكبتها الجماعة الاسلامية المتشددة، مثل التهجير القسري للمسيحيين وباقي الاقليات الاخرى، فضلا عن الاعدامات الجماعية وذبح رجال الدين، إلا أن الجماعة مضت في طريق تدمير الارث الثقافي للعراق في كل مكان وصل اليه ورفرف علم الجماعة الابيض والأسود.

فمنذ أن استولى متشددو “داعش” على مساحات واسعة من شمال ووسط العراق شهر حزيران الماضي، عمدوا الى اتباع اسلوب منهجي منظم لتدمير المواقع التاريخية في الموصل وحولها، مثل مرقد النبي شيت، ثالث ابناء النبي آدم وحواء، وتدمير مسجد النبي جرجيس ومرقد عون الدين.

وفي مدينة تلعفر، التي تقع على بعد ساعة الى الغرب من الموصل، عمدت الجماعة الى تدمير ما لا يقل عن 3 من المراقد الشيعية مع 3 من جوامع الشيعة كذلك.

كما أن المواقع التاريخية والكتابية عانت كذلك دمارا كبيرا جراء الحرب خلال العقد الماضي. وعلى سبيل المثال، فإن متحف بغداد الوطني ومعه الارشيف الوطني تعرضا للنهب والسرقة بعد الغزو الاميركي للعراق ربيع العام 2003، فيما عمدت القوات الاميركية الى انشاء احدى قواعدها جزئيا خلال العامين 2003-2004 في مدينة بابل التاريخية، حيث شغلت ذلك الموقع كمهبط للطائرات ومخازن للوقود.

لكن الفرق الواضح يتمثل في أن جماعة “الدولة الاسلامية” تتعمد تخريب وتدمير التاريخ الثقافي للعراق عن قصد وإصرار. كما أن الجماعة المتطرفة تتفاخر بهذه الاعمال من خلال النسخة الاخيرة لمجلتها الالكترونية الناطقة بالانكليزية، التي تنشرها على شبكة الانترنت، المعروفة باسم دابق، حيث تصور العديد من المناطق التي عمد مقاتلو الجماعة الى تدميرها في محافظة نينوى ومحيطها.

aus-kalif

وحسب ما اوردت جريدة صنداي تايمز مؤخرا، فإن ما لا تحطمه بلدوزرات الجماعة المتطرفة، تنهبه، مع فرض ضرائب على المهربين الذين يقومون بنقل القطع الفنية التي يسرقونها ويهربونها.

وكما هو واضح، فإن شهية الدولة الاسلامية للدمار تمنحها حسا بالكمال على ما يبدو.

إن هذه الجماعة تدعي التزامها بالرؤية السلفية للاسلام، تلك الرؤية التي يظن معتنقوها العودة بالدين الاسلامي الى نمط الحياة الذي كان يتبعه جيل الاتباع الاوائل للنبي محمد وسلوكهم.

إن هؤلاء السلفيين يرفضون، علنا، كل المخترعات والمبتكرات التي تلت القرن السابع الميلادي، فضلا عن انهم يذهبون بالتفسير القرآني والسلوكي الى أقصى فرضيات التطرف، ما يعني أن كل الصور الاخرى للإسلام تعد فاسدة ومنحرفة في نظرهم ولا بد من القضاء عليها.

ويشكل هذا التفسير الاساس المنطقي الذي بنت عليه الدولة الاسلامية وبررت به عملياتها لتدمير كل ما يتعلق بالجوانب الثقافية والتاريخية في الموصل وكل مكان.

صحيح أن هذه لا تعد المرة الاولى التي يعمد فيها الراديكاليون الى تدمير منهجي للإرث الثقافي لأمة يحكمونها. فلقد سبق لطالبان أن فخخت وفجرت تمثالين قديمين لبوذا في افغانستان في العام 2001، الامر الذي يعد مثالا أليما آخر على همجية هؤلاء المتطرفين.

لكن المقارنة الافضل تتمثل في عملية التدمير الثقافي التي عمدت اليها الصين ضمن نطاق هائل اثناء مرحلة ما كانت تعرف بالثورة الثقافية في هذا البلد ما بين الاعوام 1966-1976. ففي تلك الحقبة، عمد الشبان الصينيون الذين كانوا مسلحين برؤية ماو تسي تونغ عن الصراع الابدي للطبقات، عمدوا الى تشكيل ما تعرف بوحدات الحرس الاحمر عبر انحاء البلاد، وقد تشجع هؤلاء بدفع من ماو للتخلص مما عرفت في حينها بـ”الاربعة العتيقة” في المجتمع الصيني ممثلة في: العادات القديمة، والتقاليد القديمة، والثقافة القديمة، والتفكير القديم.

وقد عمد افراد الحرس الاحمر الى تدمير المعابد والمساجد ومواقع الارث الثقافي والفن والمكتبات، ليحولوا معظم تاريخ البلاد الممتد الى اكثر من 5000 عام، الى رماد فقط.

ولم يتوقف الدمار حتى تدخل كبار المسؤولين الصينيين لوقف تلك الحملة، وعلى سبيل المثال، فإن السبب الذي منع تدمير المدينة المحرمة في العاصمة بكين هو أن رئيس الوزراء قرر نشر قوات الجيش الصيني لحماية المدينة.

عبر مسيرة التاريخ، قد نرى احيانا بعض الجماعات الصغيرة التي تسعى لوقف، او على الاقل تخفيف، حجم الدمار، حسب كتاب وضعه روبرت ادزل ويحمل عنوان “رجال الاثار”، وهو الاسم ذاته الذي اطلق على فيلم من بطولة جورج كلوني عن مجموعة من المتطوعين الذين يتجمعون معا من اجل محاولة انقاذ قطع فنية وتاريخية نادرة لا تقدر بثمن، وحمايتها من نهب النازيين اثناء الحرب العالمية الثانية.

syr444

وحتى اليوم، فإنه يوجد هنالك هؤلاء الذين يسعون للحفاظ على الحضارة من الداخل. فحينما عمد تنظيم القاعدة في المغرب العربي وحلفاؤه الى التهام نصف دولة مالي في العام 2012، فقد تمكن هؤلاء من الاستيلاء على مدينة تومبكتو التي تعد مدينة اسلامية ذات قيمة دراسية عظيمة.

وقد عمد متطرفون من تنظيم القاعدة في حينها الى استخدام بضعة بلدوزرات بغية تدمير بعض المزارات المقدسة في المدينة، وأعلنوا أن بعض الكتب والنصوص المقدسة، التي تعود الى قرون خلت، لا تتمتع بالقدسية ولا بد من احراقها والقضاء عليها.

لكن عددا محدودا من امناء المكتبات والحراس الامنيين قرروا المخاطرة بأنفسهم وحياتهم وعمدوا الى نقل ما يقدر بـ28000 من المخطوطات بعيدا عن الضرر، حتى تمكنت القوات المالية ومعها القوات المظلية الفرنسية الخاصة من استعادة المدينة من يد المتطرفين بداية العام 2013.

من جانب آخر، قال الرئيس أوباما يوم الاربعاء الماضي “إن الولايات المتحدة ستستمر بالقيام بما يتوجب علينا بغية حماية شعبنا ضد الدولة الاسلامية، اننا سنكون حذرين ويقظين، ولسوف نكون قاسين في ردنا”.

لكن الى جانب حملة أوباما للضربات الجوية، لا بد للولايات المتحدة من العمل بهدوء من اجل تحديد ومساعدة الناس الشجعان الذين يحاولون وقف نزيف الخسائر الثقافية والتاريخية الذي لا يعوض، والذي تسببت به جماعة “الدولة الاسلامية” في المناطق التي تسيطر عليها.

لكن من المؤسف أنه يصعب انقاذ الاماكن التي لا يمكن تحريكها او نقلها مثل الجوامع والأديرة والكنائس والمقابر والمزارات والأضرحة فضلا عن المواقع التاريخية.

وبالرغم من أن السكان المحليين بذلوا جهودا لحماية تلك الأماكن، إلا انه يتوجب علينا العمل مع هؤلاء الذين يبذلون جهودهم لحماية ما يمكن حمايته وإنقاذه من القطع الفنية والتاريخية في ميدان الحرب هناك.

كما أن على الادارة الاميركية أن تعمل مع حكومة اقليم كردستان وتركيا والاتحاد الاوروبي بغية حماية وحفظ ما يمكن حفظه من المجموعات الاقلية التي يتم انقاذها من ايادي متطرفي الدولة الاسلامية.

إن هذه الجماعة تسعى بسرعة لمسح ارث العراق الثقافي والتاريخي، من دون تفكير في العواقب او التراجع عن ذلك.

إن القوات العراقية والكردية تحارب مقاتلي الدولة الاسلامية بغية استعادة اثنتين من المدن في شمال العراق، وذلك بعد الانتصار الاستراتيجي الذي حققته هذه القوات حينما تمكنت من استعادة منطقة سد الموصل.

وبلا شك، فإن من الصعوبة بمكان التركيز على انقاذ القطع الفنية والمواقع التاريخية عوضا عن التركيز على حماية ارواح الناس الذين يعانون ويتعرضون لخطر الموت بقربها.

لكن لسبب أو لآخر، فإن اي لاعب سياسي لا يملك أن يأتي بقوة مهيمنة على الطاولة كي يتمكن من تحدي ميليشيات “الدولة الاسلامية” بكفاءة وقوة، سواء كانت العشائر السنية او الحكومة في بغداد او الايرانيون او الولايات المتحدة، وحتى مع حملة ضربات واشنطن الجوية ووصف وزير الدفاع الاميركي تشاك هاغل للجماعة المتطرفة بأنها تمثل “تهديدا لكل الدول المستقرة على وجه الارض”.

لذلك، فإن جماعة “الدولة الاسلامية” ستعمد الى تعزيز قبضتها على المناطق التي استولت عليها وستستمر بنهب وتدمير ارث العراق الثقافي والحضاري.

في كتاب يونس، أمر الرب نبيه الذي وافق على مضض أن يذهب في رحلة الى ملك نينوى الاشوري وسكان المملكة ليحذرهم عن دمارهم القادم نتيجة ضعفهم.

لقد بنيت الموصل المعاصرة على عظام نينوى القديمة، فيما يحكم الاشرار هذه المدينة اليوم. اننا بحاجة الى رجال ونساء آثار شجعان مثل هؤلاء الذين ظهروا في فيلم “رجال الاثار” في العراق بغية المساعدة على وقف تدمير “الدولة الاسلامية” الذي تشنه ضد كل شيء في كل يوم، لاسيما ضد بعض من اقدم مسودات الحضارة الانسانية على الاطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى