تعاملت السعودية كعادتها مع الحادثة بكل شفافية وأعلنت الأرقام أولاً بأول عن طريق الدفاع المدني ووزارة الصحة، وتحدث خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان عن الحادثة في خطابه السنوي بمنى معزيًا ذوي الشهداء وآمرًا بلجنةٍ موسعةٍ للتحقيق في ملابسات الحادث ونشر نتائج التحقيق وتفادي أي أخطاء إن وجدت في المواسم اللاحقة.
وبانتظار نتائج التحقيق لا يمكن لأحد أن يخمّن تفاصيل الحادث، ولكن يمكن قراءة الصورة العامة التي يمكن أن يوضع فيها، فتاريخيًا، كانت حوادث التدافع تقع بين فترةٍ وأخرى بين الحجاج لأسبابٍ متعددةٍ، منها ضيق المساحة وكثافة الحجيج وهو أمرٌ تم التعامل معه بتوسعاتٍ كبرى لمداخل الجمرات ومخارجها وبخطط تفويج الحجاج المحكمة والتي ضمنت لسنواتٍ عدم وقوع أي حوادث للتدافع بين الحجيج.
وتاريخيًا كذلك ثمة جهةٌ واحدةٌ كانت هي التي تسعى لإفساد الحج واستهداف أرواح الحجاج والإصرار على جعل موسم الحج موسمًا يخدم مصالحها السياسية وشعاراتها الثورية، وهذه الجهة هي تحديدًا الجمهورية الإسلامية في إيران، ويتذكر الكثيرون كيف قامت عام 1987 بالإيعاز لحجاجهم المنظمين بضباط الحرس الجمهوري بقتل الحجاج بكافة أدوات القتل من سكاكين وقطع حديد وكل ما يمكن أن يقتل به الإنسان، وقد قامت السعودية آنذاك بدورها في حماية الحجيج وأوقفت الإرهاب الإيراني عند حدّه.
وحادثةٌ أخرى وقعت في نفق المعيصم بمنى عام 1990 وذلك عبر مجموعةٍ إرهابية منظمةٍ غالبها من الكويت ولكن بتخطيط وتدريب إيراني كامل قامت بقتل عشرات الحجيج بدمٍ باردٍ وترصدٍ وتصميم على تنفيذ الجريمة.
وقد اقتصر هذا السياق على الحج فحسب وإلا فرعاية إيران للإرهاب والجماعات الإرهابية السنية والشيعية ثابتة تاريخيًا ويتكشف فيها جديدٌ بين فينة وأخرى كما جرى مؤخرًا مع بعض وثائق أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي التي تم تسريب محتوياتها والتي تثبت تعاونًا كاملاً مع إيران، واستهداف إيران للسعودية بشكل عامٍ ولدول الخليج بعمليات إرهابية معروفٌ ومرصودٌ تاريخيًا في السعودية والكويت والبحرين، وهو ما زال مستمرًا حتى اليوم، ومنه الخلايا الإرهابية التي تم الكشف عنها مؤخرًا في الكويت والبحرين.
بعد هذه التوطئة السريعة فإن من اللافت ظهور تكتلٍ سريعٍ إثر حادثة التدافع بين ثلاث جهاتٍ ترفع راية العداء للسعودية وهي إيران وجماعة الإخوان المسلمين وبعض الناشطين من كل لون ونوع مع بقايا بعض القوميين واليسار الذين اعتادوا مهاجمة السعودية، فإيران عبر مسؤوليها وأذنابها في المنطقة بادرت بمهاجمة السعودية واتهامها بالتقصير وركبت نفس الموجة جماعة الإخوان المسلمين عبر رموزها في الداخل والخارج وعبر الدول التي تمثل الثقل الإخواني الجديد فيما بعد الربيع العربي انطلاقًا من دولتين: إقليمية كبرى وعربية صغرى.
تراوحت تلك الهجمات بين الاتهام المباشر بالتقصير دون أي إحساس بالمسؤولية أو انتظار لنتائج التحقيق وهو ما تبناه الإخوان المسلمون وبعض رموز الإسلام السياسي في الداخل والخارج وبين الترويج لـ«تدويل الحج» الذي مثّل دعايةً إيرانيةً شاذةً عبر سنواتٍ يعارضها كل المسلمين والدول الإسلامية، وبين الاتهامات التي تلقى جزافًا من بعض أيتام القومية واليسار وكذلك من بعض الناشطين الجدد الذين لا يعرفون طريقًا لإظهار أنفسهم بمظهر المستقل أو النزيه إلا بالتهجم على أوطانهم ودولهم والانخراط في كل حملةٍ معاديةٍ وكل شعارٍ معارض.
إيران عدوٌ كاشحٌ وهي لا تحاول إخفاء عدائها للسعودية منذ قامت بثورتها الطائفية والأصولية، وهي اليوم أشد عداءً بعد بروز السعودية كقائد ٍإقليميٍ ينازعها في كل الملفات الكبرى في المنطقة ويرفض كل تدخلاتها بل ويواجه مشروعها التوسعي بالقوة العسكرية الضاربة في اليمن وهو قص يد إيران الممتدة هناك، وهذا زاد من حنقها وعداوتها، والعدو الآخر هو جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي بشكلٍ عامٍ، وهذه أقل ظهورًا في العداوة من الأولى، ولكن الباحثين المختصين يعلمون علم اليقين حجم العداوة الذي تكنه للسعودية وحجم التناقض لا مجرد التعارض بين مشروعها والدولة السعودية، وهي سعت قبل إيران لزرع تنظيماتها وخلاياها في السعودية وقد زاد حقدها بعد قيادة السعودية لاستعادة الدولة المصرية من اختطاف الجماعة وتأييدها لخيار الشعب المصري.
إن خدمة السعودية للحرمين الشريفين وسعيها الطويل لخدمة ضيوف الحرمين من حجاج ومعتمرين وزوّار وإنفاقها الذي يفوق موازنات دولٍ في توفير الأمن والسلامة وكافة سبل الراحة للحجيج من توسعاتٍ وإعادة بناء وتنظيم وشق طرق وتوفير المواصلات وغيرها الكثير لهي شرفٌ للسعودية وواجبٌ أدته وتؤديه على أكمل وجهٍ بشهادة المسلمين من كل أنحاء العالم، ولا يمكن أن ينكر كل هذه الجهود الجبارة إلا عدوٌ كاشحٌ أو مكابرٌ جاهلٌ.
ليس من غرض هذا السياق نفي أي خطأ أو تقصيرٍ بأي شكلٍ من الأشكال ولكن هذا شأن التحقيق ونتائجه ورهن التقرير الذي سترفعه اللجنة المشكلة بأمرٍ ملكيٍ بخصوص هذه الحادثة وكشف ملابساتها، ولكن وكما لا يمكن نفي التقصير لا يمكن استبعاد القصد الجنائي وكلا الأمرين رهنٌ باللجنة المشكلة والنتائج التي ستعلنها.
نجاح السعودية في إدارة الحشود هو نجاح مشهودٌ له على المستوى الإسلامي والدولي، ولا يعني النجاح أن الحوادث لا تقع، ولكنها حين تقع تتم دراستها ورصد مواضع الخلل وإصلاح النقص إن وجد، ولكن هذا لا ينفي أن بعض هذه الحشود تخطئ وتخالف الأنظمة المعلنة وتربك الخطط المتبعة، ويعلم كثيرون أن بعض الحجاج يأتون الحج باعتقادٍ خاطئ هو أن «الحج جهادٌ» لا بمعنى الطاعة فحسب بل بمعنى استخدام القوة البدنية ومدافعة الحجيج بشكل عنيفٍ وهي ثقافةٌ خاطئةٌ ويجب التواصل مع تلك الدول لتصحيح هذا المفهوم لدى حجاجها.
أخيرًا، قال الملك سلمان في تعليقه على الحادثة: «إن هذا الحادث المؤلم الذي وجهنا الجهات المعنية بالتحقيق في ملابساته والرفع لنا بالنتائج في أسرع وقت ممكن لا يقلل مما تقومون به من أعمال جليلة».