عبد الله ناصر العتيبي- الحياة.. في آب (أغسطس) الماضي، قال الكاتب البريطاني «سايمون هيفر» في صحيفة التليغراف إن عدداً منّا ما زال يتذكر كيف كنا نسخر في عام 1979-1980 من فكرة أن ممثلاً هوليودياً صغيراً قد يفوز بترشيح الحزب الجمهوري، ليكون أحد المتنافسين الرئيسين في السباق نحو البيت الأبيض. كنا لا نتوقف عن السخرية، وفي النهاية انتهى الأمر برونالد ريغان في البيت الأبيض! وأضاف هيفر: «من يعرف؟ نسخر اليوم من ترشح دونالد ترامب للفوز بترشيح الجمهوريين، وقد يفعلها مثلما فعلها من قبله ريغان».
اليوم وبعد ستة أشهر من مقالة هيفر، يبدو أن ترامب قد حقق النبوءة، فكل المؤشرات تقول إنه الرجل الأوفر حظاً بكسب أصوات أكبر عدد من المندوبين الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية. فعلى رغم السخرية، التي أطلقها (العقلاء) فور إعلانه دخول السباق الرئاسي، إلاّ أنه ما زال يسير بخطى ثابتة نحو الوقوف في صف واحد مع هيلاري كلينتون، التي يبدو أيضاً أنها هي من ستفوز بأصوات المندوبين الكبار للحزب الديموقراطي.
ترامب منذ البداية عرف الطريق المناسب إلى البيت الأبيض. إذ أدرك هو شخصياً أو عرابو حملته الانتخابية أن دونالد ترامب «البليونير» سيسقط حتماً في أول الطريق إن تحدث «بعقل» عن أفكاره في الاقتصاد والسياسة.
ماذا سيضيف «نجم اجتماعي» جديد إلى الرئاسة الأمريكية إن هو لبس عباءة تيد كروز، أو جيب بوش، أو ماركو روبيو، أو بن كارسون، أو جون كاسيش، أو غيرهم من المرشحين المحتملين للحزب الجمهوري؟ الأمريكيون يعرفون أهل السياسة ويخبرون ما عندهم بالضبط، ويعرفون أن السيد ترامب ليس واحداً منهم، هذه المعرفة الابتدائية والإدراك الأولي رسما الخطوة الأولى على الطريق: «إن جئت يا سيد ترامب لتحاول أن تتشبه بحكام الولايات وأعضاء الكونغرس، فسيبقى الساسة المرشحون الأصيلون هم المفضلين على رأس خيارات الأمريكيين وتسقط أنت.
فمن الغباء أن يذهب الناخب الصغير لترشيحك وأنت الصورة في وجود السياسي الأصل. أما إن جئت بشكل مغاير وصورة مغايرة عما هو مطروح على جنبات طريق السباق نحو البيت الأبيض، فقد يحالفك الحظ، وخصوصاً أن الأمريكيين مازالوا في «حال تغيير» وضعتهم فيها انتخابات عام 2002. المزاج الأميركي الجديد جاء برجل أسود من خارج النخبة الاجتماعية التي ظلت محتكرة كرسي الرئاسة لعقود طويلة، وقد يفعلها اليوم باسم التغيير أيضاً ويأتي بدونالد ترامب المثير للجدل.
كنت يا سيد ترامب صاحب إثارة في عالمك التجاري، فلتفعلها وتكمل الطريق بالإثارة نفسها في عالم السياسة. لتفعل ذلك لهدفين رئيسين: استغلال حال «مزاج التغيير» القائمة في أمريكا، والابتعاد عن ملعب منافسيك الذين سيهزمونك قطعاً لو تحدثت بلغتهم نفسها».
اختار ترامب الطريق الوعر واللغة الشائكة والمواقف شديدة الاستقطاب في حملته الانتخابية، وها هو اليوم يسير بثبات لخطف صوت الجمهوريين في تموز (يوليو) المقبل.
في الحملات الانتخابية يقول المرشح للفوز بتسمية الحزب أو المرشح للفوز بالرئاسة ما يمليه عليه عرابو حملته الانتخابية. يقول الكلام الكبير والمثير والخاص والمتحلل من أية أعباء قانونية وغير الخاضع لأي حسابات متعلقة بالعلاقات الخارجية لأمريكا. مازلت أذكر في عام 2008 كيف كان يتسابق مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين، ومرشح الحزب الديموقراطي باراك أوباما إلى النيل من حكومات وشعوب الشرق الأوسط ونفطهم الشرير، حتى أن أوباما كان يعد الشعب الأمريكي بالاستغناء التام عن النفط الخليجي في عام 2023.
لكن بمجرد عودة جون ماكين إلى مكانه السابق في الكونغرس وتحلله من ضغط الجماهير، عادت إليه «سكينته الوظيفية» وزار السعودية بوصفه «صديقاً» مرات عدة. ومثله فعل أوباما، إذ التزم بما في أضابير البيت الأبيض من توجيهات وخرائط، ولم يعد مجدداً إلى الحديث عن شر الشرق الأوسط كما كان يصفه.
ترامب، إضافة إلى «جدله واختلافه»، اللذين أوصلاه إلى ما هو عليه الآن، راح يسير على الطريق المفضل للناخب الأمريكي، وهو الضرب في العلاقة مع الدول التي لا تشبهنا. الدول التي تختلف قيمها عن قيمنا. الدول التي تحول بنيتها الثقافية بينها وبين الأمريكيين.
قبل ثلاثة أيام قال ترامب لصحيفة نيويورك تايمز: «إن على السعودية أن تدفع في مقابل حماية أمريكا لها»، وإن عليها أن تنشر قواتها البرية لمقاتلة «داعش» وإلا ستتوقف أمريكيا عن شراء نفطها»!.
وعلى رغم أننا نعرف أن هذا التصريح هو نتاج حالين: الحال الخاصة لترامب والحال العامة لمرشح الرئاسة، إلا أنه بات من الضروري أن يعرف الشعب الأمريكي أن التحالف مع السعودية ليس لحمايتها والوقوف دون حدودها كلما اقتضت الحاجة، بل هو تحالف استراتيجي ما بين دولتين كبيرتين لحفظ أمن وسلام منطقة الشرق الأوسط، ومنع تدخلات القوى العظمى الأخرى فيها بما لا يخدم مصالح السعودية وأمريكا. كل دولة متوسطة القوة في الإقليم كالمملكة تحتاج إلى دعم قوة عظمى كأمريكا، وكل قوة عظمى كأمريكا تحتاج إلى دولة «موثوقة»، وأشدد على موثوقة، ومتوسطة القوة كالسعودية.
والعلاقة السعودية – الأمريكية تحمل إرثاً مشتركاً منذ ثمانية عقود، واستطاعت طوال هذه الفترة أن تصنع نموذج نجاح حقيقي وصلب في مواجهة المتغيرات العالمية المختلفة، وصار لزاماً على الطرفين أن يعملا سوياً على الحفاظ على هذا الحلف الاستراتيجي من خلال تعزيز المشتركات ونقاط الاتفاق وتلطيف المواقف المتضادة ونقاط الاختلاف.
نعرف أن الإدارة الأمريكية الحالية تعي هذه المسألة، وما الاتصال، الذي جرى يوم الخميس الماضي بين ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، والاتفاق على تكوين مجلس أمريكي – خليجي لمحاربة الإرهاب، إلا تأكيداً لهذه المعرفة. لكن أيضاً نظن أنه بات من الضروري أن يتم بناء سياسة إعلامية خليجية أمريكية تدعم هذا الحلف وتروّج له في الأوساط الشعبية الأمريكية على وجه الخصوص، بحيث يعي الشعب الأمريكي أن الحديث بسوء عن دول الشرق الأوسط المسلمة في الانتخابات الرئاسية قد يضر بالمصالح القومية الكبرى لبلاد العم سام.
السعودية والدول المسلمة في المنطقة قد تتفهم هذه الحال الضد – ثقافية بعض الوقت في الانتخابات الأمريكية، لكن من المؤكد أنها لن تتفهمها كل الوقت.